فهم الحضارة: جذورها وأبعادها في المجتمع
قبل الخوض في تفاصيل الحضارة بمعناها المحدد، يجب علينا أولاً
أن نفهم معناها العميق وأن نصور ماهيتها بأبعادها المختلفة، لأن الفهم يعتمد على
تصور كامل وشامل.
الحضارة في اللغة العربية مشتقة من الفعل "حضر" على
وزن "قعد"، ويعني الحضور بعد غياب، كما نقول "حضر الغائب"، أي
عاد من غيابه، ويقال "حضرت الصلاة" أي حلّ وقتها. أما "الحضر"
فهو عكس "البدو"، حيث "حضري" يُطلق على من أقام في الحضر،
بمعنى المدن والمناطق الحضرية، خلافًا للبادية. وتظهر هذه الدلالات بوضوح في
القرآن الكريم، حيث جاء الحضور بمعنى الشهادة، كما في قوله تعالى:
"إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ..." (البقرة:
)180(
وأيضًا:
(فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..." (البقرة: )185
الحضارة لا تعني فقط السكن في المدن، بل تشمل أيضًا الحضور
والشهادة التي ترتكز على القيم والمبادئ، بالإضافة إلى الإنجازات المادية التي
تقدم نموذجًا إنسانيًا متقدمًا في تجربة أي مجتمع. فكثير من المجتمعات البشرية
تقتصر على مجرد الوجود، لكن دون تحقيق الحضور الفعلي، وبالتالي لا يمكن اعتبارها
حضارات مادامت تقف عند حدود الوجود فقط.
ومن معاني الحضارة أيضًا السكن في الحضر، وسميت كذلك لأن أهلها
يتواجدون في المدن والمساكن التي يجدون فيها استقرارهم. وهذا ما أشار إليه الشاعر
القطامي في قوله:
"فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي
رجال بادية ترانا؟"
واستخدم ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" مصطلح
"الحضارة" بمعنى المدينية، حيث أن التمدن يعني انتقال الجماعات من الريف
إلى المدن، والابتعاد عن الجذور الريفية سعياً وراء حياة أغنى وأكثر رقياً.
من الناحية الاصطلاحية، عرّف مجمع اللغة العربية الحضارة بأنها
"مجموعة من المظاهر الثقافية والعلمية والفنية والاجتماعية التي تنتقل من جيل
إلى جيل داخل مجتمع معين أو مجتمعات متشابهة." وعرفها المفكر مالك بن نبي
بأنها "مجموعة العوامل المعنوية والمادية التي تمكن مجتمعًا ما من تزويد كل
فرد من أفراده بكافة الضمانات الاجتماعية اللازمة للتقدم."
الحضارة هي نظام اجتماعي يساعد الإنسان على زيادة إنتاجه
الثقافي. وتتكون الحضارة من أربعة عناصر رئيسية: الموارد الاقتصادية، النظم
السياسية، التقاليد الأخلاقية، ومتابعة العلوم والفنون. تبدأ الحضارة حيث ينتهي
الاضطراب والقلق، لأن الإنسان عندما يشعر بالأمان يتحرر لديه الدافع للابتكار
والإبداع. وبذلك، تحفزه الدوافع الطبيعية على المضي قدماً في مسيرة الفهم
والازدهار. الحضارة تعتمد في المقام الأول على البحث العلمي والفني.
أما الجانب الفني فهو يظهر في الفنون المعمارية والمنحوتات
وغيرها من الفنون التي تسهم في الرقي. فإذا نظرنا إلى الحضارات الكبرى في العالم
مثل الحضارة الرومانية، سنجد أن الفنون والعلوم كانت تشكل عنصريْن متكاملين يقودان
إلى نهضة شاملة.
بتأمل العناصر الأساسية التي تهتم بها الحضارة، نجد أنها
تتمحور حول الكون، الحياة، والإنسان. وبذلك، يمكن القول أن الحضارة هي تجسيد
لمحاولات الإنسان المستمرة في الاكتشاف والاختراع والتنظيم واستغلال الطبيعة
للوصول إلى حياة أفضل. وهي في جوهرها حصيلة لجهود جميع الأمم على مر العصور.
هناك العديد من المظاهر والعوامل التي تشكل الحضارة، وهي تتمثل
في الجوانب السياسية، الاقتصادية، الدينية، الاجتماعية، الفكرية، والفنية. هذه
الجوانب سنستعرضها خلال مناقشتنا للحضارات الثلاث الكبرى: الفارسية، اليونانية،
والهندية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق