الثلاثاء، 24 سبتمبر 2024

Relationship between the Arabs and the Persians

العلاقة بين العرب والفرس وتأثيرهم على الكعبة وبيت الله الحرام


The relationship between the Arabs and the Persians and their influence on the Kaaba and the Sacred House of God


Two people sit together in a Masjid

ذهب بعض مصنفي كتب التاريخ وغيرهم إلى أن ذلك حدث لجرهم حين كانت بمكة، وجرهم لم تكن تمتلك السلطان ليضاف إليها ذلك (عمر بن عبد الرزاق كرماني، تاريخ آل برمك، ص ٣). وقد أشار الأزرقی إلی الغزالین والسیوف فقال: إن مضاض بن عمرو رأى ما تقوم به جرهم في الحرم وما تسرق من أموال الكعبة سراً وعلانية، فقام بأخذ غزالين من ذهب وأسياف في الكعبة ودفنها في موضع بئر زمزم، وكان ماء زمزم قد جف وذهب. (ابن هشام، السيرة النبوية، جلد ١، القاهرة: ١٩٣٦م، ص ٣٢١).

وفي أي حال، فإن التلميح في الشعر إلى تلك الواقعة يشير إلى انتشار هذه القصة بين الناس بغض النظر عن صحتها. وذكرت للتذكير، أن بين العرب والفرس كان هناك تواصل وتأثر متبادل فيما يتعلق بالكعبة وبيت الله الحرام. ففي كتاب فارسي موسوم بـ "تاريخ آل برمك"، يُروى أن البرامكة، الذين كانوا في بداية أمرهم يعبدون الأصنام، أنشأوا هيكلاً شبيهاً بالكعبة في مملكتهم ببلخ، وسموه "شادية كعبة". (ابن هشام، السيرة النبوية، جلد١، القاهرة: ١٩٣٦م، ص ٣٢١). هذه التسمية تعني أن هذا البيت الذي سمي كذلك كان مشابهاً للكعبة.

ومن هذا الخبر نفهم أن بعض الفرس ربما ذهب إلى جزيرة العرب، وشاهد ما يحدث هناك، ثم عاد إلى بلاده متحدثًا عن عجائب ما رآه. وربما يكون بعض العرب قد ذهب إلى بلاد الفرس وتحدث عن الكعبة.

ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الشرح لنقول إن السفر كان الوسيلة الرئيسية لنقل الأخبار في ذلك الوقت. ولنا أن نشير إلى ما ورد في سيرة ابن هشام (البيضاوي، تفسير البيضاوي، القاهرة: ١٩٤٧، ص ٥٤٣) عن النضر بن الحارث، وهو رجل من شياطين قريش، كان قد امتلأ قلبه بالحقد على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فتعرض له بالإيذاء. النضر كان قد زار الحيرة حيث كانت تنتشر بين أهلها قصص ملوك الفرس وحكايات رستم وإسفنديار. تعلم منها النضر ما تعلم حتى أصبح قادراً على روايتها وإطالة الحديث فيها، واتخذ من ذلك وسيلة لإيذاء النبي.

وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مجلس يذكر فيه بالله ويُحذر قومه مما أصاب الأمم السابقة من نقمة الله، كان النضر يرد بعده قائلاً: "يا معشر قريش، لدي حديث أفضل من حديثه"، ويبدأ برواية قصص ملوك الفرس وحكايات رستم وإسفنديار، ويقول: "بماذا محمد أفضل مني؟" (القفطي، أخبار الحكماء، بغداد: ص ١٩١).

ويعتبر هذا الحدث بالغ الأهمية، إذ نزلت في النضر بن الحارث آية: ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين﴾ (سورة لقمان)، ويفسر البيضاوي أن النضر اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشًا ويقول: "إذا كان محمد يروي لكم عن عاد وثمود، فأنا أروي لكم عن رستم وإسفنديار والأكاسرة". (هماني، تاريخ أدبيات إيران، طهران: ١٣٤٠هـ، ص ١٩٢).

وبذكر النضر بن الحارث، يُذكر أبوه الحارث بن كلدة الذي رحل إلى بلاد الفرس وتعلم الطب في جند يسابور، حتى صار طبيباً مرموقاً بين الفرس وكافأه كسرى بمال وجارية سماها الحارث سُمَيَّة، وهي أم زياد بن أبيه (د. نجم آبادي، محمد زكريا رازي، طهران: ١٣١٨هـ، ص ٣٧). ثم عاد الحارث إلى الطائف، وأشاع علم الطب بين العرب، ويذكر أن أشهر أطباء العرب تعلموا الطب في فارس. (ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، القاهرة: ١٨٨٢م، ص ١٠١).

وكان الحارث بن كلدة معاصرًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو معروف بمعالجته لملك الفرس. وله معه قصة طويلة، إذ وقف أمامه منتصبًا، وسأله الملك عن مهنته، فأجابه: "الطب". فسأله الملك: "أعرابي أنت؟"، فأجابه الحارث بكل فخر: "نعم، من صميمها". وعندما تعجب الملك من حاجة العرب لطبيب، أجاب الحارث بذكاء: "أيها الملك، إذا كانت هذه صفاتهم، فهم أحوج الناس لمن يصلح جهلهم ويقوم عوجهم". (أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، جلد ٨، ص ٣٢٩).

وتظهر هذه المحاورة مكانة العرب عند الفرس في رأي ملكهم، كما توضح العلاقة بينهم في ذلك الزمن.

ومن الطرائف المروية أن سيداً من قريش، وهو عبد الله بن جدعان، زار كسرى، وتناول عنده الفالوذ، لكنه لم يعرف ماهيته، فسأل عنه، فأجيب بأنه طعام مصنوع من لباب الحنطة والعسل. فطلب من غلام أن يتعلم صنعه، وعاد به إلى مكة، وأمر بصنع الفالوذ، ووضع الموائد ودعا الناس لتناوله، ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه شعراً. (ابن نباقة، سرح العيون، القاهرة: ١٣٢١هـ، ص ٢٩١).

أما عدي بن زيد، فهو قصة أخرى معروفة، فهو من أهل الحيرة أرسله أبوه إلى الكُتّاب، ثم أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى بلاد الفرس لتعلم الكتابة واللغة الفارسية. تعلم عدي اللغة الفارسية وأتقنها، وأصبح من أفهم الناس بالفارسية وأفصحهم بالعربية.

واشتهر عدي بن زيد بعد ذلك في بلاط كسرى، حيث أُعجب الملك بفطنته وسرعة بديهته، وجعله كاتبًا في ديوانه. ويُروى أنه كان أول عربي يكتب في ديوان الفرس بالعربية والفارسية. ولقد حظي عدي بمكانة مرموقة عند كسرى، حتى أنه كان يُرسله كسفير إلى ملوك الروم لتبادل الهدايا والمراسلات.

وكان عدي، بعد أن استقر له الحال في بلاط كسرى، يزور الحيرة بين الفينة والأخرى، حيث كان يقيم مع أهله لفترات متفاوتة من الزمن، ثم يعود إلى المدائن. وما زالت علاقته بكسرى تزداد قوة حتى أنه بعثه مرة رسولًا إلى إمبراطور الروم.

ومن المعروف عن عدي أنه كان من أبرع الناس في الفصاحة والبيان، فكان يتقن الشعر كما يتقن اللغات، وقد نظم العديد من الأبيات التي عكست مزيجًا من ثقافتي العرب والفرس. ولا ننسى تأثيره البالغ على تطور الشعر العربي في تلك الفترة، حيث أضاف للعرب بعضًا من أساليب الفرس في نظم الشعر والتعبير.

ومن اللافت أن تأثير الحضارة الفارسية على العرب لم يقتصر على الشعر والأدب فحسب، بل امتد إلى علوم أخرى مثل الطب والفلسفة. فكما ذكرنا سابقًا، تعلم الحارث بن كلدة الطب في جند يسابور، وأدخل معه إلى الجزيرة العربية العديد من المفاهيم الطبية الجديدة التي ساهمت في تطور علم الطب بين العرب.

وفي سياق العلاقات الثقافية بين العرب والفرس، لا يمكننا أن نغفل عن دور الترجمة في هذا التأثير المتبادل. إذ كان العرب ينقلون عن الفرس العديد من الكتب في مجالات شتى مثل الفلك، والكيمياء، والطب، وقد ساهم هذا التبادل العلمي في إثراء الحضارة الإسلامية فيما بعد.

من هنا يتضح لنا أن العرب والفرس، رغم الاختلافات العرقية والثقافية، كانوا يشتركون في إرث حضاري غني، وتأثر بعضهم ببعض عبر العصور. ومما لا شك فيه أن هذا التفاعل كان له أثر كبير في تطور الحضارة الإسلامية، خاصة خلال فترة الدولة العباسية التي شهدت أكبر عمليات ترجمة للعلوم والفنون الفارسية واليونانية إلى العربية، مما جعل من بغداد مركزًا عالميًا للمعرفة في ذلك الوقت.

وهكذا، نجد أن التواصل بين العرب والفرس لم يكن مقتصرًا على جانب واحد، بل كان تفاعلًا متبادلًا أثرى الثقافتين بشكل كبير. وقد نتج عن هذا التفاعل علاقات فكرية وأدبية عميقة أثرت على تطور الحضارة الإسلامية في مجالات عديدة، من الشعر إلى الطب، ومن الفلسفة إلى العلوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot