فتح فارس: هزيمة الظاهر، تأثير الحضارة الفارسية
Conquest of Persia: Defeat of al-Zahir, Influence of Persian Civilization
وكان سقوط فارس على يد العرب هزيمة ساحقة للدولة الساسانية، إلا أن حضارة الفرس لم تتلاشَ بالكامل تحت ضربات العرب. فقد كانت هزيمة الفرس مجرد ظاهر سطحي، بينما اضطر العرب إلى الحفاظ على إرث الفرس الحضاري. تشتتت مملكة الفرس، ولكن رجال الدين الفارسيين استمروا في الاحتفاظ بنفوذهم وسلطتهم على الشعب، وبقيت التقاليد الفارسية راسخة بينهم (لوليس شيخو، أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء، بيروت: 1896م، ص 21).
ومن الأحداث التي
تروى في هذا السياق أن حاكم الأهواز، الهرمزان، بعد أن غلبه المسلمون وأسر في عام
17هـ، قال: "ما دل العرب على عورتنا إلا بعض منا ممن رأى إقبال أمرهم وإدبار
أمرنا." وذكر أنه رأى بعض الأعاجم يقتلون أهلهم وأولادهم خشية أن يقعوا في أيدي
العرب. وحين قُدم الهرمزان إلى عمر بن الخطاب، قال له عمر: "تكلم." فسأل
الهرمزان: "أأكلم حيًا أم ميتًا؟" فأجابه عمر: "تكلم لا بأس."
فقال الهرمزان: "كنّا معشر العجم ما خلى الله بيننا وبينكم نقتلكم، فلما كان
الله معكم لم يكن لنا بكم يدان." وبعدها أسلم الهرمزان وفرض له عمر نصيبًا
(البلوي، ألف باء، المجلد الثاني، القاهرة: 1387هـ، ص 210).
ويُذكر أن
الهرمزان أخبر عمر عن طريقة حساب الفرس لأوقاتهم بما يسمونه "ماه روز"،
أي الأيام والشهور، واستند عمر إلى ذلك في وضع التقويم الهجري. وقيل إن كلمة
"مؤرخ" هي تعريب لكلمة "ماه روز"، وأشار إلى ذلك شاعر فارسي
معاصر (المقريزي، الخطط، المجلد الأول، القاهرة: 1315هـ، ص 98) حين قال:
وللهرمزان قصة
أخرى مع عمر تتعلق بإسلامه، وقد ألهمت هذه القصة شاعرًا ألمانيًا في القرن الماضي
يدعى بلاتن، فنظم فيها شعرًا، كما اقتفى أثره شاعر إيراني معاصر يدعى بور داؤد،
الذي نظم عشرين بيتًا في هذا الموضوع. وكان فحوى الخبر أن الهرمزان أسلم عن رغبة
لا رهبة (ابن الجوزي، تاريخ عمر بن الخطاب، القاهرة: ص 118).
كل هذه الأحداث
المتعلقة بفتح فارس وعلاقة عمر بالهرمزان والخنساء، تُربط حتمًا بالخنساء التي دخل
عليها عمر وقد ذهبت دموعها بصرها. قال لها عمر: "ما أقرح مآقي عينيكِ يا
خنساء؟" فأجابت: "بكائي على السادات من مضمر." (Spiiler, Iran in Friih,
Islamischer Zeit-s, Wlesbaden: 1952, P. 133).
وكان للخنساء
أربعة أبناء شاركوا في معركة القادسية سنة 16هـ، وقد أوصتهم قائلة: "قد
تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار
الباقية خير من الدار الفانية. فإذا أصبحتم غدًا سالمين إن شاء الله، فاغدوا إلى
عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. فإن رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها،
فتوغلوا فيها ولا تهنوا، حتى تفوزوا بالكرامة في دار الخلود." استشهد أبناؤها
الأربعة في تلك المعركة.
قال أول أبنائها:
وقال أخوه الثاني:
أما الثالث فقال:
ولما بلغ الخنساء
خبر استشهاد أبنائها الأربعة، قالت: "الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم،
وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته." (Pagliaro-Bausari, Storia della
Letteratura Persiana, Milano: 1960, P.159).
وما دمنا نتناول علاقة الفرس بالعرب، يروي المؤرخون أن بعض الفرس المعروفين بالفارسيين قد رافقوا عمرو بن العاص في فتح مصر، وهم من ذرية باذان حاكم اليمن الذي كان تابعًا لكسرى. هؤلاء الفرس كانوا قد اعتنقوا الإسلام في الشام، وتطوعوا للجهاد في سبيل الله. يُعدُّ هذا دليلاً واضحًا على أن الإسلام جمع بين العرب والفرس تحت راية واحدة، وأذاب الفروق بينهم، مما جعلهم جميعًا يخوضون المعارك في سبيل الإيمان ويُضحون بكل ما يملكون (Dozy, Essai Sur l'Histoire de l'Islam, Leyde: 187, P.175).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق