العلاقات التاريخية بين العرب والفرس وتأثيرها الثقافي والديني
(Historical relations between Arabs and Persians and their cultural and religious influence)
تلك الوفود
التجارية تذكرنا بوفود أخرى أكثر تخصصًا، تحمل في طياتها إشارات أقوى دلالة على
العلاقات الرسمية التي كانت تربط العرب بالفرس، والتي تجسد الفكرة التي يحملها كل
طرف عن الآخر. كما تسرد الآراء التي كانت تنقلها الوفود نيابةً عن أممهم، متحدثةً
عن شعوبهم، ما يقدم تصورًا واضحًا للعلاقات الفكرية التي كانت تجمع بين العرب
والفرس. ففي إحدى المناسبات، توجه النعمان بن المنذر بصفته ممثلاً عن قومه إلى
كسرى، حيث التقى هناك بوفود من الروم والهند والصين. فبدأ النعمان بالتفاخر بأمجاد
العرب، وفضّلهم على سائر الأمم، بما فيهم الفرس، مما أغضب كسرى ودفعه إلى التحدث
بازدراء عن العرب، قائلاً إنه لا يرى فيهم أي خصال حميدة سواء في الدين أو الدنيا.
واستدل كسرى بذلك على أنهم يعيشون في البادية مع الوحوش والطيور، يقتلون أبناءهم
بسبب الفقر، ويأكل بعضهم بعضاً بسبب الحاجة، وأن أفضل طعامهم هو لحوم الإبل التي
تتجنبها بعض الحيوانات المفترسة. حتى أن إكرام الضيف كان يُعد من الكبائر التي
يفتخر بها شعراؤهم، باستثناء الدولة التنوخية التي أسس جدهم مملكتها وحماها من
أعدائها. وأشار كسرى إلى اليمن قائلاً إن التنوخية تمتلك قلاعًا وحصونًا تشبه تلك
الموجودة في اليمن.
رد النعمان على
كسرى، مفندًا مزاعمه بكلام طويل مفاده أن العرب عاشوا بجوار آباء كسرى الذين
احتلوا البلاد وأسسوا الممالك وقادوا الجيوش، ومع ذلك لم يتمكن أحد من غزوهم أو
النيل منهم. كما أن العرب يمتلكون من جمال بلاغتهم وأوزان شعرهم ما لا يوجد في أي
لسان من ألسنة الأمم الأخرى. ولديهم أشهر حرم، وبيت يُحج إليه. ويواجه أحدهم قاتل
أبيه أو أخيه وهو قادر على الثأر، لكن دينه يمنعه من الانتقام. وذكر النعمان أن
اليمن كانت خاضعة للأحباش، وأن سيف بن ذي يزن جد كسرى طلب المساعدة لإنقاذ بلاده.
وقال إن قوم سيف بن ذي يزن قد خذلوه، ولولا ذلك لوجد من يحسن القتال ويثور لحرية
الأحرار في مواجهة العبيد الأشرار. وبعد هذه الكلمات، هدأ غضب كسرى وخلع عليه من
كسوته وأعاده إلى الحيرة.
عاد النعمان إلى
الحيرة وقد حمل في قلبه مرارة وأسًى شديدين لما سمعه من كسرى من إهانة وتقليل من
شأن العرب. ولم يمكث طويلاً حتى دعا أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة التميميين،
والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر، وعامر بن الطفيل
العامريين، وغيرهم من زعماء العرب. كان هدفه من ذلك أن يجمعهم للتشاور حول الموقف
بعد أن عرف رأي كسرى في العرب. فأخبرهم بما سمع من كسرى، قائلاً إنه يخشى أن يكون
لكلامه أثر عميق، وربما يخطط كسرى لاستعباد العرب وإجبارهم على دفع الجزية له كما
يفعل بملوك الأمم الأخرى. اتفق زعماء العرب على رأي النعمان، وقرروا أن يتوجهوا
إلى كسرى ليبلغوه أن العرب ليسوا كما يظن. فتوجهوا إلى كسرى، وكل منهم ألقى كلمة
أمامه لتصحيح وجهة نظره عن العرب وإقناعه بحقيقتهم. ومن بين ما قاله عمرو بن
الشريد: "لم نأتك لنطلب رضاك أو نسعى لدعمك، ففي أموالنا ما يغنينا، وعلى
عزتنا ما يعولنا. ومع ذلك، نحن نحفظ لجوارك ونحميك من أي من يحاول الاعتداء
عليك." وقال عمرو بن معدي كرب: "تجاوز عن عجلتنا بصبرك، ولين لنا جناحك
لنسلم لك قيادتنا، لقد حمانا أرضنا من كل من حاول إذلالنا."
هذا الحوار الذي
دار بين كسرى والنعمان وزعماء العرب يكشف لنا عن العديد من جوانب العلاقات بين
العرب والفرس، ويوضح لنا حقيقة رأي بعضهم في البعض الآخر. وفي الواقع، فإن ما قيل
في هذه المناسبات لم يكن فقط مثالاً على البلاغة الفائقة، بل يُعتبر وثيقة تاريخية
ذات أهمية عظيمة. كما يُشير المسعودي إلى أن الفرس كانوا يرسلون وفودًا جماعية إلى
بلاد العرب، حيث كانوا يزورون البيت الحرام ويطوفون به تعظيمًا له ولجدهم إبراهيم
عليه السلام، وتمسكًا بهديه وحفظًا لأنسابهم. وكان آخر من حج منهم ساسان بن بابك
جد أردشير بن بابك. فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزمه على بئر إسماعيل،
ويُقال إن البئر سميت زمزم نسبة إلى الزمزمة التي كان يقوم بها ساسان وغيره من
الفرس على هذه البئر. وفي ذلك قال الشاعر:
كما افتخر بعض
شعراء الفرس في الإسلام بذلك، فقالوا:
كان الفرس يهدي
إلى الكعبة أموالًا وجواهر، وقد أهدى ساسان بن بابك غزالين من ذهب وجواهر وسيوفًا
وذهبًا كثيرًا قذفها في زمزم.
وقد استمر الفرس
في إرسال الهدايا الثمينة إلى الكعبة على مر العصور، مشيرين بذلك إلى الروابط
الروحية والتاريخية التي كانت تجمعهم مع العرب، خاصة فيما يتعلق بمكانة البيت
الحرام. وكانوا يعتبرون أن تقديم هذه الهدايا هو نوع من التعظيم والإجلال لإبراهيم
عليه السلام وللبيت العتيق الذي ارتبط بتاريخهم الروحي. وقد تجلت هذه العادات في
أشعارهم التي تؤكد على استمرارهم في حج البيت وتقديسه، وعلى قيامهم بطقوس الطواف
حول الكعبة وشرب الماء من بئر زمزم التي لطالما اعتبرها العرب والمسلمون منبعًا
للبركة.
وبالرغم من أن
الفرس والعرب خاضوا الكثير من الصراعات السياسية والعسكرية، إلا أن هذه العلاقات
الدينية والثقافية كانت تشكل نوعًا من الجسر الذي ربط بين الشعبين في العديد من
المراحل التاريخية. فلم تكن العلاقات بين العرب والفرس مقتصرة فقط على النزاعات أو
المنافسة، بل امتدت إلى التبادل الفكري والتفاعل الثقافي. وقد أظهر العرب في
الكثير من المناسبات احترامهم للعادات والتقاليد الفارسية، خاصة في المجالات
الفكرية والدينية.
وفي فترة الإسلام،
كان التأثير الفارسي في الأدب والفكر العربيين بارزًا، حيث اقتبست الحضارة
الإسلامية الكثير من التراث الفارسي، سواء في الشعر أو العلوم أو الفلسفة. ويعد
هذا التفاعل أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في إغناء الحضارة العربية الإسلامية
وتطويرها، ما يعكس مدى التداخل الثقافي بين العرب والفرس.
ومن الأمثلة
الشهيرة على ذلك، أن العديد من الفلاسفة والمفكرين العرب تأثروا بالمدارس الفلسفية
الفارسية واليونانية على حد سواء، حيث قاموا بترجمة النصوص الفارسية واليونانية
إلى العربية، مما ساهم في إثراء الفكر العربي. ومن بين هؤلاء العلماء الذين برزوا
خلال تلك الفترة، ابن سينا والفارابي، حيث اعتمدوا بشكل كبير على الفلسفة الفارسية
القديمة.
هذا الانفتاح الفكري الذي شهده العصر العباسي كان نتيجة مباشرة للتفاعلات التجارية والسياسية والدينية بين العرب والفرس، حيث كان لكل طرف دوره في إغناء الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق