الجمعة، 20 سبتمبر 2024

Arab-Persian Relations

علاقات العرب والفرس: تحالفات وتأثيرات تاريخية عميقة


Arab people demonstrating together


ونستمر في استقصاء التاريخ، لنكتشف حلقة أخرى من العلاقة بين العرب والفرس، وهي علاقة تتباين عما ذُكر سابقًا، إذ إنها تقوم على التعاون والمودة، لا على العداء والخصومة. عندما شن الفرس حربهم على اليونانيين، شاركهم العرب في الحملة، مستخدمين إبلهم وحملوها بما تحتاجه الحملة، غير أن خوفًا من فزع الإبل دفعهم لوضع العرب في مؤخرة الجيش حفاظًا على النظام.

وعندما اتجهت نوايا قمبيز نحو غزو مصر في عام 526 قبل الميلاد، حدث أن أحد المرتزقة المحاربين في جيش فرعون، يُدعى فانس، وهو رجل ذو خبرة وحكمة عميقة بالشؤون المصرية، قد وقع في خلاف مع فرعون، فهرب منه. حاول فرعون القبض عليه، لكن فانس استخدم دهاءه ليهرب بعد أن خدع ملاحقيه بإسكارهم. توجه فانس إلى فارس حيث التقى بقمبيز الذي كان مستعدًا لغزو مصر. فنصح فانس قمبيز بدخول مصر عبر الصحراء بدلًا من البحر، مما جعل قمبيز يرسل سفيرًا إلى ملك العرب، طالبًا منه السماح بمرور جيوش الفرس عبر بلاده، وتلك البلاد كانت شبه جزيرة سيناء.

وافق ملك العرب على هذا الطلب وتعهد بإمداد الجيش الفارسي بكل ما يحتاجه. فحمل قوافل الإبل بالماء وأرسلها إلى جيش قمبيز أثناء زحفه عبر الصحراء. ويقال إن ملك العرب أمر بصنع أنابيب من جلود الأبقار لنقل ماء البحر إلى الصحراء، بالإضافة إلى حفر الآبار على طول الطريق لضمان بقاء الجنود بعيدًا عن خطر الموت عطشًا.

أما إمارة الحيرة، فهي تقدم نموذجًا آخر من الروابط الوثيقة بين العرب والفرس. منح أردشير بن بابك الساساني العرب استقلالهم ليضمن ولاءهم ويحمي تخوم بلاده من غاراتهم، وكان يعتمد عليهم في مواجهاته مع العرب الآخرين والرومان. كان عرب الحيرة يحكمون أنفسهم حكمًا ذاتيًا تحت سلطة ملكهم، وكانت تبعية ملكهم لملك الفرس تنحصر في الاتفاقيات التي يرضى بها الطرفان.

لقد كان بهرام، ملك الفرس، شديد الإعجاب بالمنذر، فأوكل إليه حكم جميع مناطق العرب، وذلك بفضل المنذر الذي أخضع العرب وأعادهم إلى طاعة الفرس. وهذا يظهر أن السيطرة الفارسية لم تشمل مناطق كثيرة مكتظة بالعرب، وأن الدعم الفارسي للمنذر مكنه من اتباع سياسة خارجية إيجابية امتدت حتى وسط الجزيرة العربية، بل ووصلت جيوشه إلى بيزنطة.

بهرام جور بن يزد جرد، تربى تحت كنف النعمان بن المنذر ملك الحيرة، حيث أرسله والده ليتعلم عنده ويتأدب بأدب العرب ويتعرف على أيامهم وأخبارهم ولغاتهم. ومن طرائف ما رُوي عن بهرام جور مع النعمان، أنه ذات يوم رشق طائرين بسهمين وقوس واحدة، فسقطا أمام النعمان الذي أبدى إعجابه الكبير بمهارة بهرام في الرماية.

عندما وصل إلى بهرام جور خبر تولي الفرس رجلًا ليس من أبناء الملوك على عرش فارس، استنجد بالنعمان بن المنذر، قائلاً: "لقد كان لي حق عليك كأحد أبنائك، وإن أبي قد مات، وقد تولى الفرس رجلًا ليس من بيت الملك، فإذا لم تساعدني، سيضيع ملك آل ساسان." رد النعمان عليه قائلاً: "وما شأني بآل ساسان؟! إنهم ملوك وأنا رعية. لكني سأخرج معك بجيشي لتقوية عزيمتك." فانطلق النعمان مع بهرام حتى وصلوا إلى المدائن.

التقى الفرس بهرام وجيشه، وعندما طلب بهرام استعادة ملك أبيه، ردوا عليه بأن والده كان قد ظلمهم، وأنهم لا يرغبون في أحد من ذريته. لكن بهرام تمكن من إقناعهم ببراءته من ظلم أبيه، فأعادوا له ملكه، وعاد النعمان إلى الحيرة.

هذا يوضح بشكل قاطع أن بهرام جور استعاد ملك آبائه بفضل دعم النعمان بن المنذر، الذي كان له دور بارز في تحقيق ذلك. أما اللخميون، فقد ظلوا حكامًا تحت سيادة الفرس، ولم يجرؤ أحد منهم على إعلان التمرد ضد الفرس أو إثارة العداء معهم.

وتظل العلاقة بين اللخميين والفرس مشهودة، فقد أهدى هرمز الرابع تاجًا للنعمان الثالث عند توليه الحكم، ويقال إن قيمة التاج كانت تقدر بستين ألف درهم، وهذا كان يعني أكثر من مجرد هدية عند ملوك الفرس، وهو ما يعكس منزلة اللخميين بين العرب.

ونعود إلى العلاقة بين النعمان وبهرام جور، حيث يمكن القول إن النعمان لم يكن مجرد حاكم تابع، بل كان له دور مؤثر في صياغة تاريخ الفرس. لقد عزز بهرام من موقف النعمان ومنحه الثقة لإدارة شؤون العرب في الحيرة، وكانت تلك العلاقة متميزة بين الطرفين، حيث ساهم النعمان في تمكين بهرام من استعادة عرشه من آل ساسان، وهذا يؤكد الدور المركزي للعرب في رسم ملامح السياسة الفارسية في تلك الفترة.

أما اللخميون، فقد استمروا في الاحتفاظ بمكانة مهمة في المنطقة، رغم تبعيتهم للفرس. لقد تمكنوا من تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على استقلالهم الذاتي وبين إرضاء ملوك فارس. وعلى الرغم من أن بعض اللخميين كانوا يرغبون في مزيد من الاستقلال، إلا أنهم لم يجرؤوا على الانفصال الكامل عن الفرس، وذلك بسبب الروابط السياسية والعسكرية التي كانت تجمعهم.

وقد كان التاج الذي أهداه هرمز الرابع إلى النعمان الثالث رمزًا قويًا لهذا التحالف، وهو تاج ذو قيمة معنوية كبيرة، حيث يعكس مكانة اللخميين بين العرب والفرس على حد سواء. التاج نفسه كان تعبيرًا عن الولاء المتبادل، وهو مفهوم قد يكون ارتبط لاحقًا بما عُرف بين العرب من قول: "العمائم تيجان العرب"، في إشارة إلى مكانة العرب في ذلك الوقت، ولكن التاج الذي أهداه هرمز كان فارسيًا خالصًا، وله دلالة أخرى غير العمائم التي اشتهر بها العرب.

هذه العلاقات الوثيقة بين العرب والفرس لم تكن مجرد تحالفات سياسية أو عسكرية، بل امتدت لتشمل التبادل الثقافي والحضاري. فقد استفاد العرب من الفرس في مجالات شتى مثل الفنون والحرف والعلوم، في حين أن الفرس وجدوا في العرب حلفاء مخلصين وذوي قدرة على دعمهم في مواجهة أعدائهم من الرومان أو غيرهم.

يمكن القول إن تلك الحقبة كانت حقبة ازدهار للعلاقات العربية الفارسية، والتي شهدت فيها المنطقة تفاعلًا ثقافيًا وحضاريًا كبيرًا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot