الأربعاء، 25 سبتمبر 2024

Al-A'sha's meeting with Khosrau

لقاء الأعشى مع كسرى وتأثره بالحضارة الفارسية

(Al-A'sha's meeting with Khosrau and his influence on Persian civilization)


People sit together in a garden


كان الأعشى مغرماً بالتنقل والترحال، ويُروى أنه ذهب إلى كسرى وأنشده شعراً، فسأله كسرى عن معنى قوله:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق
وما بي من سقم وما بي معشق

فقيل له: إن الأعشى يعاني من السهر دون أن يكون به عشق أو مرض. فأجاب كسرى بعد سماعه للنص بإهمال، وقال: "هذا مجرد نص"، وأمر بإخراجه. وقد تناقل كثير من المؤرخين وأهل الأدب أخباراً عن لقاء الأعشى بأنوشيروان، مشيرين إلى أن الأعشى قد استلهم العديد من مظاهر الحضارة الفارسية في أشعاره. ويعزو ابن قتيبة استخدام الأعشى للكثير من الألفاظ الفارسية في شعره إلى تواصله مع ملوك فارس. وقد أشار الأعشى إلى طول رحلاته في فارس قائلاً:

قد سرت ما بين بانقيا إلى عدن
وطال في العجم ترحالي وتسياري

كان الأعشى أول من جاب البلاد البعيدة بطلب الرزق من شعره، وكان يُغني في شعره، لذا أطلقت عليه العرب لقب "صناجة العرب". وروي أنه جعل من شعره وسيلة للتجارة، يتكسب به في أسفاره، حتى وصل إلى ملك العجم الذي أغدق عليه بالعطاء، تأثراً بما كان ملوك العرب يقدرونه من الشعر. إلا أن شعره لم يُعجب ملك العجم بعد أن فُسر له، بل استخف به، لكنه على الرغم من ذلك قلد ملوك العرب في تكريمه.

وألف الأعشى قصيدة مدح مشهورة في يوم ذي قار، تضمنت أبياتاً يتوجه فيها إلى كسرى قائلاً:

فافعد عليك التاج معتصباً به
لا تطلبن سوانا فتُعبَّدا
فلعمر جدك لو رأيت مقامنا
لرأيت منا منظراً ومؤيداً
في عارض من وائل إن تلقه
يوم الهياج يكن مسيرك أنكدا
وترى الجياد الجرد حول بيوتنا
موقوفة وترى الوشيج مسندا

كان كثير من العرب يُؤخذون كرهائن إلى بلاد الفرس، وكان لهذا الوضع أثره الواضح. فقد قيل إن التكنية ظهرت في أيام ملوك الفرس، حيث كان العرب رهائن هناك، وكان الآباء يزورون أبناءهم ويُقال "جاء أبو فلان"، حتى يتم التعرف على الشخص من خلال أبيه. ومع مرور الوقت، تحولت التكنية إلى لقب ومرتبة اجتماعية. وهذا يُظهر أن بعض العرب عاشوا في بلاد الفرس لفترة كأسرى، وأن آباء الأسرى كانوا يزورون أبناءهم في تلك البلاد. كما أن تواجد العرب في البحرين، التي كانت جزءاً من مملكة الفرس، يُشير إلى هذه الصلة، حيث سكن فيها العديد من قبائل العرب مثل عبد القيس وبكر بن وائل وتميم.

وقد تأثر أهل المدينة بألفاظ الفرس نظراً لتواجد بعض الفرس في ديارهم منذ القدم، فأخذوا عنهم بعض المفردات، مثل تسميتهم للبطيخ بالخريز، والسميط بالروذق. وكذلك الحال مع أهل الكوفة الذين استخدموا كلمة "بال" للفأس، وهي كلمة فارسية، ولو تأثرت لغة أهل البصرة بشكل مشابه نظراً لقربهم من بلاد فارس لكان ذلك متوقعاً.

أما عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فيُروى أنه وُلد في عام الفيل، في السنة الثانية والأربعين من ملك كسرى أنوشيروان. وكان على الحيرة عمرو بن المنذر بن امرئ القيس، المعروف بعمرو بن هند. وقد وردت الأخبار عن وقوع أحداث غريبة ليلة مولد الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث ارتجّ إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وانطفأت نار فارس التي لم تنطفئ منذ ألف عام. وقد رأى الموبذان، قاضي قضاة فارس، في المنام إبلاً صعبة تقود خيلاً عربية عبرت دجلة وانتشرت في بلاد الفرس. وعندما أخبر كسرى بهذه الرؤيا، أُصيب بالذعر، وجمع مستشاريه، وأرسل إلى النعمان بن المنذر ليُرسل له رجلاً عالماً يستشيره. فأرسل النعمان عبدالمسيح بن عمرو الغساني، الذي أخبر كسرى أن لديه خالاً في مشارف الشام يُدعى سطيح، وهو الأعلم بتلك الرؤيا.

رحل عبدالمسيح إلى سطيح الذي كان على وشك الموت، فأخبره بالقصة، ورد عليه سطيح بشعر كاهني، قائلاً:

"عبدالمسيح على جمل يسيح إلى سطيح قد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاده، يا عبدالمسيح، إذا كَثُرت التلاوة وبُعث صاحب الهراوة وفاض وادي الساوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطوح شأماً. يُملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت".

عاد عبدالمسيح إلى كسرى بهذه الأنباء، فأخبره كسرى أن حتى يملك منهم أربعة عشر ملكاً، ستكون هناك أمور عظيمة. وقد تحقق هذا بالفعل، حيث حكم عشرة منهم أربع سنين، والباقون حتى عهد عثمان بن عفان.

وللباحثين المعاصرين نظرات أخرى، فبعضهم لا يرى في هذه الروايات شيئاً مستحيلاً على قدرة الله، بل يعتبرها إرهاصات تدل على عظمة الله، الذي قد يعجز العقل عن استيعاب حكمته

ويضيف بعض الباحثين أن هذه الحوادث التي وردت في الروايات تشير إلى دلائل على قرب وقوع تغييرات جذرية في مصائر الأمم. وما حدث بين العرب والفرس، آنذاك، يعد أكثر من مجرد صلات عابرة، بل كان يختزن في طياته تحولات كبرى في مسار التاريخ. فبالتأكيد، لم تكن هذه الوقائع مجرد أساطير نسجها الخيال أو شغف الشعور نحو النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت إشارة إلى حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي التبدلات الكبرى التي جرت بين تلك الأمم، وما حملته من معانٍ عن البقاء والفناء، وعن أمم عاشت فترة ازدهارها ثم أفل نجمها، لتحل محلها قوى جديدة.

وتعد العلاقة بين العرب والفرس قبل الإسلام علاقة معقدة وغنية، لكنها في تلك الفترة، وفقاً لبعض المؤرخين، كانت أضعف نسبيًا مقارنة بما ستكون عليه في العصور اللاحقة. فقبل الإسلام، كانت الروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية بين الطرفين أقل تأثيراً في تغيير مصائر الشعوب، ولم تشهد ذروة تعقيداتها حتى قدوم الإسلام الذي أحدث تحولاً جذرياً في التاريخ الإنساني.

ومع بزوغ فجر الإسلام، بدأت العلاقات بين العرب والفرس تأخذ منحى آخر، حيث تحول التأثير الثقافي والتاريخي بين الأمتين من حالة التبادل المحدود إلى حالة من الاندماج والتفاعل العميق. فكان الإسلام عاملاً جامعاً لهذه الأمم، متجاوزاً الحدود الجغرافية والسياسية، محققاً تقارباً غير مسبوق بين العرب والفرس، الذين دخلوا في مرحلة جديدة من التفاعل الذي أعاد صياغة التاريخ والمجتمع.

إن هذه المرحلة من التاريخ، بما حملته من إرهاصات ودلائل على التحولات الكبرى، تعد شاهداً على قدرة الأمم على التغيير والتكيف مع الأحداث الكبرى. وما حدث من سقوط للنار الفارسية واهتزاز إيوان كسرى، لا يمكن أن يُنظر إليه بمعزل عن التغيرات العميقة التي كانت على وشك الحدوث في المنطقة والعالم، بفضل الرسالة المحمدية التي جاءت لتغير مسار الإنسانية.

ومما لا شك فيه، أن ما كان بين العرب والفرس قبل الإسلام، من علاقات تجارية وثقافية واجتماعية، ساهم في تشكيل جزء من هذه الحقبة التاريخية التي امتدت جذورها إلى ما بعد الإسلام. فالتأثير المتبادل بين الحضارتين لم يكن مجرد مرحلة عابرة، بل كان تمهيدًا لحقبة جديدة من التفاعل الثقافي والسياسي والديني بين العرب والفرس، حيث انتقل التأثير من السطح إلى العمق، ومن التفاعل الظاهري إلى الاندماج الكامل.

وبعدما تحولت الخريطة السياسية للعالم الإسلامي، أصبح للعرب والفرس دورٌ مشترك في بناء حضارة إسلامية جديدة، حيث شارك العلماء والفقهاء والمفكرون من الجانبين في نهضة علمية وثقافية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. كانت هذه النهضة ثمرة للتقارب والتفاعل بين الشعوب التي دخلت تحت راية الإسلام، فلم يعد هناك مكان للصراعات القديمة، بل أصبحت القيم الإسلامية تجمعهم لتحقيق ازدهار حضاري غير مسبوق.

في النهاية، تُعد هذه الأخبار والروايات التي تناقلتها الأجيال، سواء أكانت حقائق تاريخية أم رموزًا، تعبيراً عن الصلات التي جمعت بين العرب والفرس، والتي تطورت على مر العصور. وتبقى هذه المرحلة، بكل ما حملته من تفاعل وصراع وتعامل، محطة أساسية في مسار التاريخ الذي شكل العلاقات بين هاتين الأمتين، واضعاً أسسًا لعالم جديد كان ينتظر تلك التغيرات الكبرى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot